خمسة وعشرون عاماً على رحيل نهاد قلعي
وافق يوم الأربعاء 17 من تشرين الأول، الذكرى 25 لرحيل نهاد قلعي، الذي وافته المنية عام 1993، في مستشفى الهلال الأحمر، بعد أن تفاقمت أمراضه، وجاءت أزمة قلبية لتضع حدًا لمشواره في الحياة، وتم تشييعه من جامع لالا باشا في حي المهاجرين الدمشقي، ودُفن في مقبرة الدحداح، بعد أن تخلى عنه نجوم صنعهم فكره أبرزهم دريد لحام.
هو نهاد قلعي الخربطلي مواليد دمشق 1928، عمل في بداية حياته المهنية مراقبًا في معمل للمعكرونة، ثم ضاربًا للآلة الكاتبة في الجامعة، ونقل بعد ست سنوات من العمل إلى وزارة الدفاع واستقال بعدها ليعمل مساعدًا لمخلص جمركي طوال خمس سنوات، إلى أن عمل لحسابه الخاص.
انتسب قلعي إلى استديو البرق عام 1946 وشارك بتقديم مسرحية “جيشنا السوري”، وفي عام 1954 أسس النادي الشرقي مع سامي جانو والمخرج خلدون المالح، وقدم في المسرحيات أدوارًا كوميدية مثل “لولا النساء” و”ثمن الحرية”، على مسارح دمشق والقاهرة حيث حاز على إعجاب المسرحيين المصريين، وبدأت نجوميته بالتصاعد.
رافق قلعي انطلاقة التلفزيون السوري عام 1960، مع دريد لحام ومحمود جبر، بمجموعة من البرامج الخفيفة كان أولها “سهرة دمشق”، ثم الأوبريت المسرحي “عقد اللولو” الذي حوله المنتج نادر الأتاسي إلى فيلم سينمائي، من بطولة صباح وفهد بلان، ثم شارك قلعي في مسلسل “رابعة العدوية” مع المخرج نزار شرابي.
وكانت البداية التلفزيونية الأهم لقلعي في مسلسل “حمام الهنا” مع دريد لحام ورفيق سبيعي وإخراج فيصل الياسري، إذ تكرست فيها شخصيتا حسني وغوار.
كما قدم مجموعة من الأفلام السينمائية منها “غرام في اسطنبول”، “النصابين الثلاثة”، و”خياط السيدات”.
نهاد قلعي “عراب الكوميديا السورية”
يجمع النقاد في سوريا على أن الفنان الراحل نهاد قلعي من عمالقة الفنانين السوريين، الذين صنعوا بدايات التلفزيون السوري، وكان بجدارة العقل المفكر الأساسي الذي مهد لنهضة التلفزيون والمسرح والسينما في سوريا، فإبداعه في مجال الإخراج والتمثيل والكتابة وإدارة المؤسسات الفنية جعلته عرابًا حقيقيًا لهذه المجالات التي استطاع من خلالها بجهده الذاتي، وجهد بعض الرفاق تشييد الخطوات الأولى للفن في سوريا، تلك الخطوات التي ما زالت هي الأهم رغم تطور الفنون جميعًا والتي ما زالت ماثلة حتى يومنا هذا في الإنتاجات المعاصرة.
كان قلعي الوريث في “حمام الهنا”، والمطرب الحالم في “مقالب غوار”، والصحفي الوسيم في “صح النوم”، هذه الأدوار كانت ميزتها أن شخصيتها واحدة هي “حسني البورظان” التي اخترعها قلعي، بالإضافة إلى نده “غوار الطوشة” (دريد لحام)، في محاكاة للشخصيتين العالميتين “لوريل وهاردي”.
حادثة اعتداء أدت إلى وفاته بعد 15 عامًا
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، أي بعد تولي حافظ الأسد للحكم في البلاد بسنوات قليلة، جمع مطعم “النادي العائلي” في باب توما بدمشق، كلًا من قلعي وتوأمه الفني دريد لحام، والممثل والملحن السوري شاكر بريخان.
وكان الثلاثة في استقبال ضيفهم الصحفي اللبناني جورج إبراهيم الخوري، وفق ما ذكر الناقد السينمائي بشار إبراهيم في كتابه “سينما نهاد ودريد”.
وصدف أن رجلًا غريبًا سخر من قلعي، فشتمه الأخير، ليُفاجَأ السينمائي والمسرحي القدير بضربة كرسي على رأسه، قبل أن يوسعه الرجل الذي اتضح أنه ضابط من سرايا الدفاع، ضربًا شديد القسوة.
وكانت سرايا الدفاع قوة عسكرية غير رسمية رديفة للجيش السوري، ويترأسها رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد، وارتكبت العديد من المجازر في ثمانينيات القرن الماضي بعد اندلاع ثورة في محافظة حماة.
توقفت “أسرة تشرين” عن عرض مسرحية “غربة” لأشهر بعد الاعتداء الذي وقع على قلعي، وبعد صدور قرار الأطباء القاطع بمنعه من متابعة المسرحية، حل محله في العروض الممثل تيسير السعدي، بدور “أبو ريشة” المجنون، التواق دومًا للسفر. يجلس في الشوارع وهو ينتظر الطيارة.
وبالرغم من مرور 15 عامًا بعد الحادثة، عانى خلالها قلعي المرض والشلل قبل أن يفارق الحياة في 17 من تشرين الأول 1993، ويربط السواد الأعظم من الناس، من بينهم بشار إبراهيم نفسه، بين اعتداء الضابط وتدهور الحالة الصحية لقلعي، والتي أدت به معزولًا ومنبوذًا حتى وفاته.
يروي الناقد السينمائي “بشار ابراهيم” في كتابه “نهاد ودريد” قصة الاعتداء الذي تعرض له الفنان قلعي قائلاً: “كان نهاد قلعي ودريد لحام وشاكر بريخان يسهرون في مطعم النادي العائلي في حي “بابا توما” بدمشق، ويستقبلون صحفيا لبنانياً هو جورج ابراهيم الخوري.
و قبل نهاية السهرة غادر دريد لحام، وبقي ثلاثتهم ساهرين، وعندما نفدت سجائر الضيف، طلب من النادل سجائر، لكن النادل لم يلب طلب الضيف، ما أثار غضب نهاد قلعي، الذي أنب النادل، وإذ برجل يجلس مع شلة من رفاقه على طاولة مجاورة إلى خلفهم، ينادي بصوت غليظ عال: (بورظان بدك سجائر؟ تعال خد من عندي) فقال له نهاد (أنا ما بدي من حدا سجاير، بعدين أنا ما لي اسم معروف تناديني به ياحمار)، ويضيف الناقد ابراهيم: “لم يكن أحد يتوقع أن تكون هذه الجملة مدمرة ليس للسهرة بل لحياة نهاد قلعي كلها، إذ إنه سيفاجأ بضربة كرسي تنهال على رأسه، تتبعها ضربات أشد قسوة أدت به إلى المستشفى، حيث تمت معالجته بشكل سريع، وخياطة الجرح الذي ألمّ برأسه دون عناية كافية”، تفاعلات هذا الحادث وانتكاساته الطبية كما يقول ابراهيم لاحقت نهاد 15 سنة وجعلته حبيس بيته والمرض من جرّائه، والذي كان على شيء من سخرية القدر كون اسم البورظان الذي أضحك ملايين الناس كان بمثابة مقتل له، إضافة لهجران الناس له، مع بقاء السيناريوهات التي كتبها حبيسة أدراج الإذاعة والتلفزيون السوري، في إصرار اجتمع معه عدة ظروف لأن تتحول سنواته الأخيرة إلى نقيض تام لما كان يطمح له ألا وهو الموت على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا. نعم كان حياته مأساة كاملة محاصرة بالحظ العاثر.