ظروف لا إنسانية وحقوق مسلوبة.. سوريان في ألمانيا يرويان تجربتيهما مع “الأسَود”
“عندما تحاصرك الحياة، فلا مجال أمامك للتفكير بحقوقك كإنسان، لتستنفر كل قواك باتجاهٍ واحدٍ هو تلبيةُ حاجاتك”، عبارةُ قصيرةُ استهل فيها الشاب السوري “رامي” ـ اسم مستعارـ حديثه لـ”زمان الوصل” عن تجربته في سوق العمل غير الشرعي في ألمانيا، أو ما يعرف بالـ”أسود”، مشيراً إلى أنه يمكن اعتبار ذلك بشكلٍ أو بآخر نوعا من أنواعِ العبودية الحديثة.
بعيونٍ تتفحصُ الأرض، ونظراتٍ شاردةٍ، ويدين متشابكتين يتلاعبُ في منتصفهما إبهامان تركَ العملُ آثارهُ عليهما، يكملُ ابن الـ”23 عاماً” وصفَ تجربته: “ربما هي من أقسى الفترات التي عشتها، فلا يوجد أصعب من إحساس الغربة إلا أن تشعر بأنك فقدتَ ولساعاتٍ طوالٍ ما تبقى من آدميتك التي دمرتها سنوات الحرب والتشرد، لتندمج بالآلة التي تعمل أمامها أو الأداة التي تستخدمها، ليصبح همكما المشترك والوحيد ملء جيوب صاحب العمل بالمزيد من النقود”، لافتاً إلى أن أكثر الأعمال في هذا المجال تتم بظروف تحيط بها شتى المخاطر والانتهاكات.
*حقوقٌ في مهبِ الريح
تبدأ رحلة الخروج من زمن حقوق الإنسان والسفر إلى زمن العبودية وفقاً لما وصفه “رامي” مع أول يوم عمل، حيث تكون أولى شروط القبول والتوظيف مرتبطة بإخلاء مسؤوليةِ صاحبِ العملِ عن أي إصابةٍ قد يتعرضُ لها العامل أثناء داومه، وحتى أي مرضٍ قد يتعرض له نتيجة ظروف العمل، مضيفاً: “غالباً ما تنحصر الوظائف غير الشرعية بالمطاعم وأعمال البناء ما يعني أن العامل معرض في أي لحظةٍ لخطر الإصابة نتيحة الزيت المغلي أو سقوط حجر فوق رأسه ما قد يفقده حياته أو يصيبه بعاهةٍ مستديمةٍ، أو أن يتعرض للإصابة بمرض دائم كالأكزما أو الديسك وغيرهما، لا سيما وأن كل هذه الأعمال تتم وفق ظروفٍ لا تراعي أياً من معايير السلامة المهنية، خاصةً وأن ساعات العمل غالباً ما تمتد إلى 12 ساعةً يومياً دون أي حق بفترة راحة”.
يضيف “رامي” في حديثه عن تجربته الشخصية: “كنت أحد الذين تعرضوا لإصابة عمل، ففي آخر وظيفة لي عملت في مطعمٍ سوريٍ في مدينتي الواقعة في مقاطعة شمال “الراين” غرب ألمانيا، وبعد أسابيع ونتيجة المواد والكفوف التي كنا نستخدمها أصبت بتحسسٍ شديد في اليدين، فكانت النتيجة أني طردت دون أحصل على أي حقوقٍ كوني أصبت بسبب العمل، ناهيك عن الآلام والأعراض المرضية التي ظهرت عليَّ نتيجة الجهد والوقوف لساعاتٍ طويلة”، لافتاً إلى أنه ومَن مثلَهُ كانوا يجبرون على القيام بكافة الأعمال داخل المطعم دون وجود عمل ثابت لهم أو اختصاص محدد ما يعني أن الـ12 ساعة هي فترة عمل فعلية، في الوقت الذي يحدد فيه القانون الألماني ساعات العمل بـ 8 ساعات فقط يتخللها حوالي 30 دقيقة للراحة وتناول الغداء.
لا تتوقف الانتهاكات بحق العاملين عند حد ظروف العمل القاسية وغير الإنسانية في عصر كان العنوان الأبرز فيه “حقوق الإنسان”، وإنما تعدى ذلك وفقاً لما قاله “رامي” إلى عدم منح العاملين لمرتباتهم في كثير من الأحيان، مضيفاً: “من الصعب جداً أن تجد شخصاً عمل بهذه الطريقة دون أن يتعرض للنصبٍ، فالكثير من أصحاب العمل يدركون أن العامل لا يستطيع تقديم شكوى ضدهم، ما يشجعهم على عدم الالتزام بدفع الأجور وهو الانتهاك الأكبر، فتخيل أنك وبعد شهر كامل من العمل في ظل هذه الظروف القاسية، تصطدم بعبارة “مالك شي عندي”، أي قهرٍ أكبر من أن ترى تعبك يسرق دون أن تحرك ساكناً ودون الحق حتى بالكلام أو الاعتراض، فتخيل أيُّ ألمٍ نفسيٍ ذاك”.
*ظاهرة قديمة وأجور زهيدة
ليس بعيدا عن “رامي” يؤكد الشاب “معاذ” ـاسم مستعار 30 عاماًـ أنه بين من خاضوا ذات التجربة وبذات الظروف، مضيفاً: “عندما تتحدث عن هذا الموضوع فإنك تتحدث عن مئات الحالات وليس حالة أو اثنتين، فالجميع منا يعمل بظروف قاسية، ومع غياب القانون يتحول اهتمام أرباب العمل لزيادة الأرباح والثروة، ضاربين بعرض الحائط سلامة وصحة وحقوق العاملين، ناهيك عن الأجور الزهيدة التي لا تتجاوز3 يورو للساعة الواحدة في معظم الأحيان مقابل 9 يورو للساعة بحسب القانون الألماني، ما يجعلنا فعلاً أشبه بالعبيد أو موظفي السُخرة”، مشبهاً حالة أولئك العاملين بمن ينام تحت المطر بلا سقف.
تطابَق شهادة “معاذ” مع “رامي” لم تقف عند حد الانتهاكات فحسب، وإنما امتدت للتأكيد على حالات النصب أيضاً، لافتاً إلى أنه هو الآخر كان واحداً من هؤلاء الضحايا، بعد أن رفض صاحب العمل منحه بقية مستحقاته المالية على خلفية نزاع نشب بينهما، مضيفاً: “بلط البحر!! هذا كل ما جنيته بعد أسابيع من العمل المجهد، وتركي للعمل جراء مع خلاف مع صاحبه”.
ويزيد معاذ: “لم أتعرض لإصابة عمل حتى الآن والحمد لله، ولكنني أعرف الكثيرين مِن مَن أصيبوا بمثل هذه الإصابات، بعضها حفيفة وبعضها يحتاج لعلاج طويل، ولكن القاسم المشترك الأكبر بينها جميعاً أن أصحاب العمل لم يقدموا أي تعويضات حتى ولو جزئياً، بل البعض منهم قام بفصل العامل فور إصابته، رافضاً منحه حتى راحة لبضعة أيام”.
*حاجات تغلب القناعات
صمتٌ، تأملٌ، وتنهيدةٌ قطعها “رامي” بصوت حاد معبراً عن رفضه الربط بين هذا النوع من العمل وبين الطمع لجني أموال أخرى بدافع تكوين الثروة، مضيفاً: “الحكومة تقدم لنا المساعدة المالية التي نحتاجها كأشخاص يعيشون حياة طبيعية، ولكن الكثير منا كسوريين تحديداً لديه ظروف ومتطلبات تتجاوز المساعدة المالية التي نتلقاها بأضعاف، فنحن لا نعيش حياة طبيعية كما الآخرين”، متسائلاً أي ثروة تلك التي سأجنيها من عمل لا أتقاضى فيه أكثر من ثلاث أو أربع يورو في الساعة؟.
يضيف “رامي”: “وصلت ألمانيا قبل ثلاث سنوات، بعد رحلة استنزفت كل ما ادخرته من أموال بالإضافة لما استندته من المعارف خاصةً وأن الرحلة كانت تكلف في حينها ما يقارب 6 آلاف يورو، كنت كما يقال تحت الصفر، وبالرغم من ذلك كنت رافضاً في البدء للفكرة من أساسها لأسباب دينية وأخلاقية، وانصرفت لتعلم اللغة التي أتقتنها فيما بعد استعداداً لإكمال دراستي الجامعية، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت الحياة تضيق والدائنون يطالبون بنقودهم، ناهيك عن رغبتي بالزواج والتي تحتاج المزيد من المال، بدأت الأيام تمصي بسرعة، وحاجاتي تحاصرني، لذا كان القرار في نهاية المطاف “سأعمل بالأسود”.
في السياق ذاته، ربط “رامي” بين أسباب ميله لهذا الاتجاه وظروف العمل القانوني، مستطرداً: “حاولت البحث عن عمل قانوني بعد إنهاء اللغة ولكن واجهت عدة مصاعب أهمها أن معظم الوظائف تكون عن طريق شركات التوظيف التي تقتطع نسبة من المرتب لعدة أشهر، المرتب الذي غالباً ما يكون وفق الحد الأدني للأجور أي 1200 يورو بعد اقتطاع الضرائب والتأمين، تبقى نسبة شركة التوظيف وأجرة المنزل والمستلزمات الشهرية، ليجد الإنسان ذاته في نهاية المطاف كمن يراوح بمكانه، دون الحصول على أي توفير مالي إضافي، بل على العكس لاسميا وأن العمل القانوني يعني فقدان اللاجئ لكافة المساعدات الحكومية”.
إلى جانب تراكم الديون، والرغبة في الزواج، وصعوبة الحصول على وظيفة براتب مقبول، أضاف الشاب “معاذ” أسبابا إضافية إلى ما قاله “رامي”، تعلقت بالتزام عدد كبير من اللاجئين بمساعدة أهلهم وعوائلهم خاصة المقيمين في مخيمات اللجوء في دول الجوار، مضيفاً: “الكثير من السوريين لديهم عائلات تعيش داخل سوريا أو مخيمات اللجوء خاصة مع تزايد اعداد حاملي إقامة الحماية الثانوية واستعصاء ملف لمّ الشمل لهم، وبالتالي هم مضطرون لمساعدتة أهلهم خاصة مع ما يعانونه من غلاء وبرد وجوع حصد حياة الكثير منهم، كما عرضت وسائل الإعلام”، متسائلاً كيف للمرء أن يتجاهل هذا الوضع المزري لأهله أو زوجته أو أبنائه؟.
*حلول واقتراحات
“عندما تتصارع الإنسانية مع القانون، فلا بد من غلبة الإنسانية في دولة يُحترم فيها القانون الذي وضع أصلاً لمراعاة ظروف الإنسان”، يقول “رامي”، عارضاً وجهة نظره لكيفية الحد من العمل الأسود واستغلال اللاجئين من أصحاب الحاجة “العقاب ليس حلاً فهي ظاهرة قديمة جداً في ألمانيا وفي كل يوم تتصاعد حدتها وانتشارها، والأنجح هو الترغيب بالابتعاد عن العمل غير القانوني من خلال مثلا إعفاء اللاجئ خلال أول سنتين من الضريبة أو تخفيفها، أو الإبقاء على مساعدة السكن لمدة عامين إضافيين مثلا فيما لو تمكن اللاجئ من إيجاد عمل”، لافتاً إلى أنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض يشعر بالرضى وهو يرى تعبه يُسرق ويتحول إلى أموال تزيد من ثروة السارق”.
في السياق ذاته اعتبر “معاذ” أن تخفيف العقوبة عن العامل الذي دخل سوق العمل غير الشرعي قد يساعد أيضاً في تحفيزه لتقديم شكوى ضد كل من يقوم باستغلال اللاجئين وبفتح منشأته أمام المتهربين من الضرائب للعمل فيها، مؤكداً أنه فيما لو فكرت الحكومة بإعفاء كل من يتقدم بشكوى ضد صاحب عمله من العقوبة لامتلأت المحاكم الألمانية بهذه الشكاوى وتراجعت نسبة العمل غير الشرعي.
يشار إلى أن القانون الألماني يعتبر العمل خارج الإطار القانوني “بلا عقد عمل” كجريمة يعاقب عليها بغرامة مالية تصل إلى 5 آلاف يورو، وغرامة مضاعفة فيما تكرر الأمر بالإضافة إلى الترحيل الفوري من البلاد فيما لو كان العامل أجنبياً، إلى جانب صعوبة تحويل الإقامة من لجوء إلى دائمة أو الحصول على الجنسية في حال كان العامل من من حصلوا على صفة اللجوء في البلاد.
وكانت وسائل إعلام نقلت في وقت سابق عن أجهزة رقابية ألمانية تقديرها أن نحو 30% من أصل 1.1 مليون من طالبي اللجوء من من وصلوا إلى البلاد في العام 2015 يعملون بشكل غير قانوني، وهم من جنسيات مختلفة.
كما تجدر الإشارة إلى أن عدداً من رجال الدين الإسلامي أفتوا بحرمانية العمل غير القانوني في أوروبا عموماً على اعتبار أنه ينتهك الاتفاق بين اللاجئين والحكومة، ويعتبر سرقة للأموال العامة.
– حسام يوسف – زمان الوصل.