دخل الشمال السوري، وخاصة محافظتي إدلب وحماة وريفهما، مرحلة جديدة من الصراع السياسي والعسكري يمكن وصفها بـ “المعقدة”، مع مصير ضبابي وسيناريوهات لا يمكن التنبؤ بها يمكن أن ترسو عليها تفاهمات “الدول الضامنة”، وخاصة تركيا وروسيا.
مشهدان يلخصان واقع الشمال السوري، خلال الأسابيع الماضية، الأول توغل قوات النظام السوري، مدعومة بالطيران الروسي وميليشيات إيرانية ولبنانية وعراقية، في عمق مناطق المعارضة، تقابله مقاومة الفصائل المقاتلة في ريف إدلب الجنوبي.
أما المشهد الثاني، فيتجسد في القصف اليومي من قبل الطيران السوري وسلاح الجو الروسي في مختلف مناطق إدلب وريفها، موقعًا أكثر من 1221 قتيلًا بينهم 332 طفلًا، ونزوح أكثر من 853 ألف شخص، منذ 2 من شباط الماضي ولغاية 15 من آب الحالي، بحسب فريق “منسقو الاستجابة”.
وبين المشهدين تدور تحليلات وتساؤلات عن مصير المنطقة، بين تصاعد في وتيرة العمليات العسكرية بين النظام وحليفه روسيا وبين الفصائل المدعومة من تركيا، ومحاولة كل طرف توسيع خريطة سيطرته، ما يعزز موقفه خلال اجتماع الزعيمين، التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في قمة اسطنبول الثلاثية إلى جانب الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في 11 من أيلول المقبل، أو التوجه إلى مسارات جديدة متعلقة بالخط السياسي الخاص بسوريا.
مناظير الليل تمنح التقدم لروسيا
بعد إلغاء الهدنة من قبل النظام السوري واستئناف القتال، في 4 من آب الحالي، فتحت قوات النظام وحليفتها روسيا عدة محاور ضد الفصائل، وبدأت بالسيطرة على عدة مناطق، كانت أولاها قريتي الأربعين والزكاة بريف حماة الشمالي، ثم بلدة الهبيط، كبرى بلدات ريف إدلب الجنوبي غرب مدينة شيخون، في 11 من آب، لتبدأ توسيع سيطرتها في المنطقة من خلال السيطرة على بعض القرى مثل حرش الهبيط وبلدة عابدين وحرش عابدين.
وعلى الجهة الشرقية من مدينة خان شيخون، سيطرت قوات النظام على بلدة سكيك وقرية ترعي التي تعد بوابة بلدة التمانعة، وسط المحاولة للسيطرة على التمانعة، من أجل وضع مدينة خان شيخون بين “فكي كماشة”، ما يعني إطباق الحصار على ريف حماة الشمالي الذي يضم اللطامنة وكفرزيتا ومورك، وتوجد فيها نقطة مراقبة تركية.
التقدم السريع لقوات النظام يعود إلى سببين: الأول دخول قوات “حزب الله” والميليشيات الإيرانية في المعارك بعد غياب طويل عن جبهات المنطقة، بحسب ما قاله القائد العسكري في “الجبهة الوطنية للتحرير”، العاملة في إدلب وحماة، النقيب غياث أبو حمزة، لعنب بلدي.
وأكد رئيس المكتب السياسي لـ ”الجبهة الوطنية للتحرير”، أبو صبحي نحاس، أن النظام السوري يعد العدة للهجوم على المنطقة منذ أكثر من شهر ونصف، وتم إدخال الإيرانيين و”حزب الله” في المواجهات، إلى جانب بذل روسيا أقصى جهدها في المعارك.
أما السبب الثاني فهو تغيير نظام المعارك من نهارية إلى ليلية، باستخدام المناظير الليلية الحرارية المتطورة، في وقت لا تمتلك الفصائل تلك القدرات، خاصة وأن الصواريخ المضادة للدروع التي تعتمد عليها المعارضة بدعم من تركيا تفقد فعاليتها ليلًا، ولم تكن الفصائل مهيأة للمعارك الليلية، ما أدى إلى تراجعها، بحسب نحاس.
الموقف التركي ثابت؟
لا يمكن، عند الحديث عن معارك إدلب، تجاهل الدولة التركية، التي تمتلك 12 نقطة مراقبة توزعت على كامل الشريط الشرقي والغربي لمحافظة إدلب، بموجب جولات “أستانة”، العام الماضي، إذ تعتبر من الدول الضامنة للاتفاق ويعول عليها في رسم مستقبل المنطقة ومنع تقدم قوات النظام، الذي قد يسبب موجات نزوح كبيرة تجاه حدودها، الأمر الذي لا طاقة لها به، بحسب تصريحات المسؤولين الأتراك.
المعارك الأخيرة رافقها غياب تركي رسمي تام عن المشهد، إذ لم يصدر أي تصريح حول تقدم قوات النظام، باستثناء تحذير أطلقه وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في 5 من آب، من تفاقم المأساة الإنسانية في إدلب في حال خرق الهدنة وعودة الاشتباكات العسكرية، لتقتصر التصريحات السياسية التركية على مصير المنطقة الآمنة التي تسعى إلى إنشائها بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة شرق الفرات.
غياب إدلب عن التصريحات التركية فتح الباب أمام إشاعات حول إيقاف دعمها للفصائل المقاتلة، نتيجة اتفاقها بشكل خفي مع روسيا على تسليم المنطقة للنظام في جولة “أستانة 13″، التي عقدت في 1 و2 من آب الحالي، لكن المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير”، النقيب ناجي مصطفى، نفى ذلك وأكد لعنب بلدي أن الدعم التركي لم يتوقف، مستدلًا على ذلك بتدمير أهداف بصواريخ “تاو” المضادة للدروع.
كما علمت عنب بلدي من مصدر قيادي في فصيل “فيلق الشام”، المنضوي ضمن “الجبهة الوطنية للتحرير”، بوصول شحنة صواريخ من تركيا إلى الفصائل في المنطقة، الأسبوع الماضي.
وعند سؤال رئيس المكتب السياسي لـ ”الجبهة الوطنية للتحرير”، أبو صبحي نحاس، عن تقديم تركيا مناظير ليلية للفصائل، لم يؤكد ذلك أو ينفه، واكتفى بالقول إن المناظير الليلة تحتاج إلى دراسة لأسلوب القتال باستخدامها وترتيب هذه الأمور يحتاج وقتًا.
لكنه اعتبر أن الفصائل امتصت الصدمة (هجوم روسيا والنظام)، واعدًا بتغييرات من ناحية المعارك وظروفها لصالح الفصائل في الأيام المقبلة.
وحول الموقف التركي أكد نحاس أن الموقف ثابت ولم يتغير، لكن الذي تغير هو ظروف المعركة، معتبرًا أن موقف تركيا هو ثابت مع قضية الثورة وضامن للفصائل بشكل عام.
أما عن نقطة المراقبة التركية في مدينة مورك، وحصارها من قبل قوات النظام في حال السيطرة على مدينة خان شيخون، فاعتبر نحاس أن تركيا أمام احتمالين: إما سحب قواتها إلى الخلف، أو الإصرار على البقاء في المنطقة، دون إمكانية روسية لاستهداف النقطة، بسبب الاتفاق بينهما، مؤكدًا أن المؤشرات تدل على أن الموقف التركي حاليًا هو البقاء في المنطقة.
“الجيش الوطني” يتعهد بالمؤازرة
الموقف التركي من المعارك يقود إلى الحديث عن “الجيش الوطني” في ريف حلب الشمالي، المدعوم من قبل أنقرة، وموقفه من تقدم النظام، إذ أطلق سوريون معارضون حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم “#الجيش_الوطني_أثبتوا_وطنيتكم”، طالبوا فيها فصائل ريف حلب بالتوجه إلى جبهات إدلب للمؤازرة.
وعقدت “الجبهة الوطنية للتحرير” عدة اجتماعات مع “الجيش الوطني”، كان آخرها السبت 17 من آب، من أجل التنسيق بين الجانبين، خاصة وأن إرسال أرتال عسكرية ومؤازرات يحتاج إلى بحث لمعرفة نقاط التمركز على الجبهات، والمعارك التي تشارك بها الفصائل المساندة والجاهزية والطرق التي تسلكها، وهذا كله يتطلب بحثًا من خلال غرفة عمليات مشتركة، بحسب نحاس.
من جهته قال المسؤول الإعلامي في فصيل، “أحرار الشرقية”، المنضوي ضمن “الجبهة الوطنية”، الملقب بـ “الحارث رباح”، لعنب بلدي، إن الفصيل لديه نقاط تمركز في جبهات إدلب منذ بداية الحملة العسكرية، وأرسل تعزيزات خلال الأيام الماضية، مؤكدًا أن الفصائل الأخرى تستطلع المنطقة حاليًا.
وأكد الناطق باسم “الجيش الوطني”، يوسف حمود، لعنب بلدي، أن فصيلي “أحرار الشرقية” و”الجبهة الشامية” موجودان بالأصل في المنطقة، بينما توجهت أرتال داعمة للمنطقة، مشيرًا إلى وجود قرار متخذ لدى “الجيش الوطني” (بإرسال تعزيزات) لكن للدواعي العسكرية لم يعلن عن أي رتل مرسل من المنطقة، محيلًا الإعلان عن وصول أي رتل إلى إدلب للناطق باسم “الجبهة الوطنية”، ناجي مصطفى.
وتعهد قادة فصائل في “الجيش الوطني” العامل في ريف حلب الشمالي، ومنهم قائد “تجمع أحرار الشرقية”، أبو حاتم شقرا، وقائد فرقة “الحمزة”، سيف أبو بكر، وقائد “الفيلق الثالث” في الجيش الوطني، أبو أحمد نور، بإرسال عناصر إلى إدلب وحماة لمساندة فصائل المعارضة على الجبهات.
وبين صمت تركي يقابله دعم عسكري للفصائل، وإصرار روسيا وحليفها، النظام السوري، على متابعة التقدم، ينتظر سكان المنطقة ما ستؤول إليه الأيام المقبلة، وخاصة قبل القمة الثلاثية في تركيا، وسط تخوف من التوصل إلى اتفاقات بين الدول تكون على حسابهم.