إطلالات ياسر العظمة.. هل هي إحالة للتقاعد؟
مصطفى عباس – مقالات رأي :
قد لا يكون الحديث عن أحد مؤسسي الدراما السورية الحديثة، وأحد قاماتها بهذه السهولة، ولا يمكن أن يُحكم على ظهوره الجديد عبر حلقة أو اثنتين على وسائل التواصل الاجتماعي، لذلك تريثتُ عدة أسابيع كي أكتب عن إطلالات ياسر العظمة هذه.. التي وصفها في الحلقة الأولى ” حطوا القهوة على النار ” بأنها بداية صغيرة وتلويح باليد، مشيراً إلى أنه سيترك هذه القصة إن لم يحصل على التفاعل المطلوب.
لا يمكن تحميل هذه الحلقات أكثر مما تحتمل، فهي عبارة عن إعادة للتواصل بين الممثل وجمهوره المتعطش لمنتج ذي قيمة فنية وأخلاقية بعد الهبوط الكبير الذي أصاب الإنتاج الفني والدرامي.. تعطش وانتظار سببه توقف مسلسل مرايا منذ نحو عشر سنوات، والهالة التي رسمها العظمة لنفسه عبر البعد عن وسائل الإعلام، والغياب عن الظهور الاجتماعي، وفي هذا السياق يندرج عدم تبني العظمة لرأي سياسي معارض، على العلن أقلها.
كما أن الهالة تأتي أيضاً من السقوط الأخلاقي المريع لدريد لحام، الذي اعتقد الكثيرون أنه سيكون من أول المنادين بالحرية والكرامة والمساواة، لأنه لطالما تغنى بهم في المسرحيات التي كان بطلها، من هنا أتت هالة العظمة، فنحن قوم لا توسط عندنا.. فإذا أحببنا أحببنا بجنون، ثم نُفاجَأ، بأن المحبوب لم يكن على قدر الحب الذي منح له. أضف إلى ذلك الذاكرة القليلة السعة لدينا، فمرايا العظمة التي كان سقف مواضيعها مرتفعاً في سوريا الأسد، كانت إحدى وسائل التنفيس عن احتقان الناس، التي يعمد إليها النظام من خلال إسماع الناس عبر الإعلام ما يخشون قوله في السياسة، ولكنهم لو قالوه هم أنفسهم لذهبوا إلى المجهول. وانا هنا لا أتهم العظمة، الذي أحبه، إنما أوصف الواقع السياسي والاجتماعي والفني الذي كنا نعيشه في سوريا الأسد، وهو كان مفروضاً على الجميع.
ومسلسل المرايا هو من أهم السلاسل الاجتماعية الكوميدية الناقدة على مستوى الوطن العربي، الذي لم يحرف الواقع والتاريخ السوري إرضاءً لرغبة القنوات العربية، وفي هذا السياق يقول الباحث سامي مبيض في مقالة له: “مسلسل مرايا وحده دوناً عن كلّ المسلسلات السورية يصلح أن يُلقب “عمل بيئة شامية،” لانه جسد مدينة دمشق بكل حالاتها وتفاصيلها الصغيرة، ودخل إلى عمق المجتمع الدمشقي الذي عرفه العظمة جيداً، دون اللجوء إلى نمطية الحارة التي شهدناها في “أيام شامية” وبعدها في “باب الحارة،” والتي تقوم على ركائز دكان الحلّاق والقهوة والمخفر. وقد لعب العظمة أدواراً متنوعة للغاية، غطت كل ألوان الطيف الدمشقي، من الوالي وصولاً إلى عامل النظافة”.
الفيديوهات التي تتراوح مدتها بين ثلاث دقائق وعشرين دقيقة لو لم يتم تقديمها بقالب إخراجي متقن من حيث الإضاءة والصوت، وما رافقها من أداء متقن- كما هي العادة-، وانتظار السوريين للجديد من فنان كان قادراً على الإبهار، لكان العظمة مثل أغلب اليوتيوبرية، والناشطين الإعلاميين الذين باتوا اليوم يتكاثرون بالانشطار النووي، وكل يوم نسمع عن يوتيوبر جديد، رغم أن عنده ملايين المتابعين ومئات الفيديوهات.
والعظمة بالأساس لم يلجأ لوسائل التواصل الاجتماعي إلا بعد أن يئس من المنتجين السوريين في دمشق، الذين رفضوا عروضه، ولم يوافقوا على شروطه لعودة المرايا من جديد، وهذا لم يكن خافياً في ثاني إطلالته ” إن رضيت دمشق” حيث ذم كثيراً بكتاب الدراما الذين يتطاولون وطولهم شبر، والذين لم يقرأوا التاريخ، ومشهدياتهم تجلى فيها الطبل والزمر، وهذه الجملة الأخيرة هي من مأثورات رجل الأعمال والمنتج التلفزيوني محمد قبنض، الذي وصفه العظمة في ” الإعلام والحمام الزاجل ” دون ان يسميه طبعاً بأنه ” منتج أمي قادم من غياهب المجهول وفي جيبه كم مليار”، وفي هذه الحلقة التي كانت باللهجة العامية غلب فن المقامات القائم على السجع والقافية المشتركة، وهو يلبس الكمينو ( روب دو شامبر) انتقد فيها عدم احترام خصوصية رمضان، والمسلسلات العربية المشتركة، والقنوات التي تشجع برامجها الغناء فقظ دون الفلسفة والعلم، لينتهي إلى أنه مل من كل هذه المهزلة ولن يجرفه التيار.
بالعودة إلى حلقة “إن رضيت دمشق” التي فأنا رأيت فيها سقفاً مرتفعاً، خصوصاً عندما يقول:
كم ندعي نصراً ولا نصرٌ.. ومكاسب في إثرها خسر
أسيادنا أملاكهم ذهب.. ونفائس قد ملها القصر
ما همهم شعب على عوز.. ورعية قد عضها الفقر
نمنا عقود يعبثون بنا.. بمخططات كلها هدر
ماحقق الإنصاف سادتنا.. فتحت رمادنا جمر
ورغم هذا فقد طاله الكثير من الانتقاد من المعارضة السورية، ولكن ماذا تنتظرون من فنان يعيش في دمشق أن يقول أكثر من هذا؟ وهو بكل الأحوال لم يقدم نفسه ولا مرة كمعارض، ولا شك أن انتقاد فيصل القاسم للعظمة يأتي من أن الأخير قد بدا بإطلاق النار عندما قال: “الاتجاه المايل يطرح مواضيع كبيرة على ضيوف صغار”.
في آخر ظهور للعظمة تكلم فيه عن أساتذته بكثير من الحنين والوفاء، وركز كثيراً على علاقته مع الشعراء ومع والده “الشاعر الذي لم يكتب شعراً”، وكأن هذه الإطلالات هي سيرة ذاتية على لسان صاحبها، عندما لم يُسمح له أن يقول مايريد عبر الفن، فلجأ إلى أسلوب الحكواتي على طريقته الجميلة، كالسياسي الذي يأفل نجمه فيبدأ بكتابة مذكراته. لا ندري في الحلقات القادمة إن كان العظمة سيسهب بالحديث عن ذكرياته، أم أنه سيبدأ بالنقد الاجتماعي والسياسي، كنوع من التنفيس، وهو كان لديه ضوء أخضر سابقاً.
*تفاصيل برس.