البيوت الدمشقية القديمة وكنوزها الدفينة.. تاريخ وعمارة ساحرة وحاضر يرثى له (فيديو)
“تشبه هذه البيوت بجدرانها وسقوفها المتلألئة القصور الخيالية، فتظهر مغطاة من كل جوانبها بالأحجار الكريمة، وإضافة إلى المرايا التزينية والتذهيب وفن الزخرفة العربية، هناك فناجين قهوة مزينة بقواعد ذهبية، وفوط مزينة لمسح الشفاه بعد الشراب تتماشى ألوانها الزاهية مع فخامة المنازل. وببساطة كان هناك كل ما يمكن أن يبهر المرء حقا”.
كان ذلك جزءا مما نقلته الباحثة والمستشرقة البريطانية بريجيت كنان في كتابها “دمشق القديمة وكنوزها الدفينة” عن مذكرات للسيدة البريطانية هيستر ستانهوب تَصِفُ فيها المنازل الدمشقية أثناء جولة سياحية لها في دمشق القديمة عام 1812، وكان ذلك بعد أن طلبت السيدة الأرستقراطية من الوالي العثماني نقلها من الأحياء المسيحية إلى أحياء المسلمين لتتعرف إلى ثقافتهم وفنونهم المعمارية.
وهي واحدة من مجموعة شهادات جمعتها المستشرقة بين دفتي كتابها لتسلط الضوء على الجماليات الدفينة للمنازل الدمشقية الكامنة بطابعها المعماري الفريد والاهتمام البالغ الذي أبداه سكانها بالفنون الزخرفية المختلفة لتغدو تلك المنازل تحفا فنية قائمة بذاتها.
ولكن مع توسع مدينة دمشق مطلع القرن الـ20 وتركز الثقل الاقتصادي في الجانب الحديث منها، أخذ بعض سكان المنازل الدمشقية القديمة بالانتقال إلى الجانب الحديث، في وقت تعاظمت فيه هجرتهم مع نشوب الصراع في البلاد في عام 2012.
وعلى الرغم من تحول معظم تلك البيوت اليوم إلى مطاعم أو مقاه أو فنادق أو مستودعات أو منازل مهجورة، وتعرّض معالمها الأثرية للأضرار نتيجة لتلك التحولات، فإنها لا تزال تحافظ على بريقها وبعض معالمها الساحرة.
قصر العظم.. وبيوت ألف ليلة وليلة
على مدى قرون شكلت باحات القصور والمنازل الدمشقية الرحبة، وأشجارها الوارفة، وقاعات استقبالها الوسيعة، وبلاطها الرخامي وغيرها من العناصر المعمارية “عامل دهشة ومحط تقدير بالغ” للكثير من السياح الذين زاروا دمشق، كما تورد المستشرقة بريجيت كنان في كتابها.
ويصفُ الكاتب والصحفي الأميركي جورج ويليام كورتيس -الذي زار دمشق عام 1852- تلك البيوت بالقول “إن كل بيت دمشقي هو جنة قائمة بحدّ ذاتها، إنه قصر خيالي كما في الأحلام، فالمنظر يشبه قصيدة شعر مُلحنة للغناء، إن مثل هذه الديار تبعث في المخيلة حكايات ألف ليلة وليلة”.
وفي جانب من جوانبه يلخص هذا التشبيه (بيوت ألف ليلة وليلة) تاريخ هذه المنازل العريقة، إذ صمد بعضها لمئات الأعوام، على الرغم من كل ما شهدته المدينة من زلازل وحرائق وغزوات، فكانت البيوت بعد كل كارثة تُبنى وتُرمم من جديد لتعود بهذا دمشق إلى بهائها المعهود.
وكثيرا ما انتقلت ملكية هذه البيوت من عائلة إلى أخرى نتيجة للحروب والتحولات السياسية التي شهدتها المدينة، فقطنها الأثرياء ومشايخ الدين والعسكر والساسة والقادة والولاة والحكام؛ كحال “قصر العظم” الذي لا يزال قائما حتى اليوم منذ أن بناه والي دمشق أسعد علي باشا العظم بين عامي 1749 و1750 وعاش فيه قرابة العقدين.
وقد تحوّل القصر اليوم إلى متحف للفنون والتقاليد الشعبية مفتوح لاستقبال جميع الزوار بباحاته الداخلية الضخمة وغرفه الفسيحة التي كانت تقسَّم إلى التقسيمات المعمارية العثمانية التقليدية: غرفة الحرملك التي تخصّص لنساء القصر، وغرفة الخدملك المخصصة للعاملين في القصر، وقسم السلملك المخصص للزوار.
مجتمع متنوع
ولأن المجتمع الدمشقي القديم لم يعرف التمييز الطبقي، فقد كان الأغنياء يعيشون إلى جانب الفقراء في بيوت متلاصقة، كما أنه لم يعرف التمييز على أساس الدين والعقيدة، فعاش في الجزء القديم من المدينة اليهود والمسلمون والمسيحيون في أحياء متقاربة.
ومن أهم البيوت المسيحية القائمة حتى اليوم “بيت شامية”، الذي كان ملكا من أملاك عائلة التاجر المسيحي الدمشقي أنطون شامي، وقد تعرّض المنزل للتخريب ثم أعيد بناؤه عام 1863 ثم تحوّل اليوم إلى دير ومكان للتعبد.
أما البيوت اليهودية فمن أبرزها “مكتب عنبر” الواقع في حارة اليهود الدمشقية، والذي بُني على يد يهودي ثري يدعى يوسف عنبر يُقال إنه ذهب إلى الهند خادما وعاد محملا بالألماس الثمين في طربوشه، ليبني واحدا من أكثر المنازل فخامة وبذخا في دمشق القديمة، لكن عنبر عجز فيما بعد عن تسديد الضرائب المترتبة عليه للسلطات العثمانية، فقامت الأخيرة عام 1890 بمصادرة منزله وتحويله إلى مدرسة، واليوم تم ترميم هذا البيت ليصبح مكانا جاهزا لاستقبال الزوار والسياح.
كما أن أقدم البيوت الموجودة في دمشق اليوم تعود في تاريخ بنائها إلى القرن الـ18 فقط، حيث كان في دمشق قبل ذلك صروح عظيمة اشتهرت في زمنها، لكنها اندثرت اليوم كقصر “الباريس” الذي بني في العهد البيزنطي وكان يقدم لجميع زواره الماء، و”القصر الأخضر” الذي بناه الأمويون قرب الجامع الأموي، و”قصر الذهب” الذي بناه المماليك.
عمارة فريدة
عبر دهاليز ضيقة يصل زائر البيت الدمشقي مباشرة إلى باحة الدار حيث الشمس تنثر أشعتها، وفي كل الجهات أشجار وارفة وزهور مبتسمة، وقد يتألف البيت من باحة واحدة تتشاطرها عائلة كاملة، أو من باحتين: خارجية تسمى “السلاملك” وهي لاستقبال الضيوف، وداخلية تدعى “الحرملك” وهي لأهل الدار والنساء، أما إذا كان المنزل كبيرا فقد يضم 3 أو 4 باحات.
وقد تكون باحات البيوت الدمشقية فسيحة أو صغيرة، وفي كلتا الحالتين يكون الغرض منها تلطيف الجو في أيام الصيف الحارة، ويمكننا أن نجد في كل باحة قدرا يحتوي على نبات الريحان وهو النبات المفضل لدى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إلى جانب الأشجار التقليدية التي تزرع دائما كالكباد والليمون والنارنج والعنب الذي تمنح أوراقه الممتدة حتى الأسطح ظلا وارفا للساكن.
وترصف الباحات الدمشقية بالرخام وفق نماذج هندسية معقدة، وتضم كل باحة بين أرجائها “بحرة” لها أرضية مغطاة بالحجر ومزينة أحيانا بالفسيفساء أو مرصعة بالصدف.
وتبنى البحرة في “السلاملك” غالبا على هيئة الليوان، وهي غرفة ضخمة مغلوقة من 3 جهات ومفتوحة بالكامل من الجهة الرابعة ناحية أرض الديار لاستقبال الهواء الرطب.
ومقابل الليوان مباشرة هناك غرفة الاستقبال تسمى “القاعة”، وهي أجمل أجزاء البيت الدمشقي، تغطي أرضها البسط والسجاد، وفيها أرائك منخفضة تسمى “الديوان” مخصصة لجلوس الضيوف.
أما الجدران الداخلية للمنازل فهي غالبا تكون مبينة بمداميك من الحجر الأبيض والأسود، ومزينة بالزخارف النباتية، وكان المماليك هم أول من استوحى هذا الأسلوب في القرنين الـ14 والـ15، لكن حرفيي دمشق طوروا الأعمال الزخرفية فوصلوا بها حد الكمال في القرن الـ18.
وشاعت إلى جانب الزخارف النباتية، الرسوم والتصاوير الجدارية مطلع القرن الـ19، حيث بدأت المباني والمناظر الطبيعية تظهر على جدران وسقوف البيوت الدمشقية، وقد شاع كثيرا تصوير مباني مدينة “إسطنبول” والبوسفور كتعبير عن الولاء للدولة العثمانية.
كما أن هناك أيضا السقوف والجدران المغطاة بزخرف عربي كما في البيت الدمشقي المسمى “بيت نظام”، الذي فيه قاعة استقبال كاملة نُقش على سقفها وإطارات نوافذها آيات وسور كاملة من القرآن الكريم.
مطاعم ومقاهٍ ومستودعات
حل القرن الـ20 على دمشق بحداثته التي كانت بمثابة وبال على المنازل الدمشقية في المنطقة القديمة، فمع ظهور الحافلة الكهربائية الفرنسية وخطوط الهاتف وأجهزة الفونوغراف وبناء الأبنية الحديثة، بدأ الأثرياء وأبناء الطبقات الراقية في دمشق ينقلون أماكن سكناهم تباعا إلى الجزء الحديث من المدينة.
لكن يمكننا القول إنه طوال القرن الـ20 ظلت هجرة السكان باتجاه دمشق الجديدة هجرة محدودة، في حين كان العقد الأخير شاهدا على تحويل العشرات من هذه البيوت إلى مقاهٍ ومطاعم وفنادق لما تشكله عمارتها وعراقتها من عامل جذب للسياح -على قلّتهم- وللزوار المحليين.
وتفاقمت لاحقا هذه الظاهرة على خلفية هجرة معظم سكان المنازل في العقد الأخير إلى خارج البلاد أو وفاة المُلَاك وبيع أولادهم هذه البيوت إلى المستثمرين؛ إذ تقول أم جورج (56 عاما)، من سكان حي باب شرقي الدمشقي، “أشعر اليوم بالوحدة في هذا الحي الذي أعيش فيه مذ وُلِدتُ، لقد هاجر معظم الجيران فتركوا منازلهم مهملة أو باعوها لمستثمرين حوّلوها مباشرة إلى مطاعم ومقاهٍ، أما من توفاهم الله فقد باع أبناؤهم المنازل -أيضا لمستثمرين في الغالب- مباشرة وتقاسموا الأموال، وذهب كل منهم في حال سبيله”.
واليوم هناك في دمشق فندق ومقهى “دار الياسمين” وهو دار عربية يعود تاريخها إلى القرن الـ18، وفندق آخر يسمى “بيت الوالي”، وهو من أكبر الفنادق التراثية ومؤلف من 3 بيوت عربية مفتوحة على بعضها.
وعلى الرغم من محاولة المستثمرين الحفاظ على المعالم العمرانية المختلفة لهذه المنازل كونها جزءا من الاستثمار، فإن تحولها إلى مطاعم ومقاه وتحوّل بعضها الآخر -الأقل قيمة- إلى مستودعات للتجار الذين يخزنون فيها البضاعة ويشغلون فيها العُمال، أضرّ بهويتها التراثية والمعمارية.
ويقول علي (34 عاما) -أحد المشرفين على بيت دمشقي تحوّل إلى مَعرض- للجزيرة نت “أخشى أن تَحوُّل البيوت إلى مقاه ومستودعات ومطاعم يهدد المعالم الأثرية الأكثر هشاشة فيها؛ كالزخارف التي تزين الأثاث والخشب والأبواب، وحتى الحمامات التي غالبا ما يقوم المستثمرون بتغيير منافعها الأثرية إلى أخرى يمكن للزبائن استعمالها، وهو ما يعني العبث بهوية المكان والانتقاص من قيمته الأثرية”.
هكذا تصبح الهوية المعمارية للمنازل الدمشقية الأثرية مهددة بالضياع نتيجة للأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد وركود القطاع السياحي والهجرة المستمرة لأصحابها.